سورة الإخلاص سورة مكيَّة عظيمة، تحدَّثتْ عن صفات الكمال لله تعالى، وأثبتتْ له الأحدية المطلقة، المنزَّهة عن المماثلة في ذاته وصفاته وأفعاله، وردَّت على المفترين عليه جل وعلا، الذين ينسبون إليه الولدَ والذرِّية من اليهود والنصارى ومشركي العرب، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
سبب نزولها:
جاء في "سنن الترمذي" عن أُبَيِّ بن كعب: "أن المشركين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربَّكَ، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2]"؛ (حسنه الألباني: 3364).
كما جاء عن ابن عباس: "أن اليهود أتَوُا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: صِفْ لنا ربك الذي تعبد، فأنزل الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}"، فقال: ((هذه صفةُ ربي عز وجل))؛ رواه البيهقي في "الأسماء والصفات"، وقال عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح": إسناده حسن ("فتح الباري" 356/ 13).
فضلها:
- تعدل ثلث القرآن:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((احْشِدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ))، فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: "إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ"، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: ((إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلاَ إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ))؛ "صحيح مسلم".
- يُبنى لقارئها بيت في الجنة:
عَنْ سَهْلِ بنِ مُعَاذِ بن أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((مَنْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عَشْرَ مَرَّاتٍ، بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ))، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: إِذنْ نَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ))؛ رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، حديث رقم: 6472.
- حراسة صاحبها وحفظه من الشرور بإذن الله:
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ، إِذْ قَالَ: ((يَا عُقْبَةُ قُلْ))، فَاسْتَمَعْتُ، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُقْبَةُ قُلْ)) فَاسْتَمَعْتُ، فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقُلْتُ: "مَا أَقُولُ؟"، فَقَالَ: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ ((مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ))؛ رواه النسائي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" حديث رقم: 7950.
- حبها سبب لدخول الجنة:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَلْزَمُ قِرَاءَةَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي الصَّلاةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ وَهُوَ يَؤُمُّ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا يُلْزِمُكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟))، قَالَ: "إِنِّي أُحِبُّهَا"، قَالَ: ((حُبُّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ))؛ رواه الترمذي (2901)، وحسنه الألباني.
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على فضلها العظيم، وعلو مكانتها بين آيات الله في كتابه العزيز.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}:
خطابٌ من الله عز وجل موجه إلى نبيه - عليه الصلاة والسلام - يأمره فيه بوصفِه سبحانه بأكمل الصفات، وأبلغ العبارات؛ فالأحد: الذي لا مثيل له، ولا ندَّ، ولا شريك، فهو أحدٌ في صفاته، وأحد في ذاته، وأحد في وجوده، تفرَّد بالربوبية: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: 16]، وتفرَّد بالألوهية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، وتفرَّد في الصفات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]، وهي تأتي أحيانًا بمعنى الواحد ولا فرق بينهما، يدل عليه قراءة ابن مسعود: قل هو الله الواحد. ("تفسير البغوي" - ج 8/ ص 588).
{اللَّهُ الصَّمَدُ}:
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير: {الصمد}: الذي لا جوفَ له.
قال الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب.
وقال قتادة: {الصمد}: الباقي بعد فناء خَلقه، وقال عكرمة: {الصمد}: الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي، وقال الربيع: الذي لا تعتريه الآفات، قال مقاتل بن حيان: الذي لا عيب فيه. ("تفسير البغوي" - ج 8/ ص 588).
قال أبو وائل شقيقُ بن سلمة: هو السيد الذي قد انتهى سُؤدده، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد (أخرجه عبدالرزاق في التفسير: 2/ 407، والطبري: 30/ 346).
هو المقصود إليه في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، تقول العرب: صَمَدْتُ فلانًا أصمُده صَمْدًا - بسكون الميم - إذا قصدتَه، والمقصود: صمَد، بفتح الميم، وهو المعول عليه في التفسير، فمن كان متفردًا بالكمال والألوهية فيجب أن يتصف بالصمدية، فهي نتيجة للألوهية وملتحقة بها؛ لأنه إنما يعبد لكونه محتاجًا إليه دون العكس، فالصمدية نتيجة للألوهية، فهي مستأنفة أو مؤكدة.
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}:
جاءت لتنفيَ الولادة والمولودية عن الله سبحانه وتعالى، ومكملة لسابقاتها المثْبِتة للتفرُّد؛ لأن الولادة تقتضي انفصال مادة منه سبحانه، وذلك يقتضي التركيب المنافي للصمدية والأحدية، أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه سبحانه وتعالى أحدٌ؛ لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن، لأن الولد - على ما قيل - يطلبه العاقل إما لإعانته، أو ليخلفه بعده، وهو سبحانه دائم باقٍ، غير محتاج إلى شيء من ذلك، والاقتصار على الماضي دون أن يقال: لن يلد؛ لورودِه ردًّا على مَن قال من المشركين: إن الملائكة بنات الله، أو اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، أو النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ويجوز أن يكون المراد استمرار النفي، وعبَّر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ}، وهو لا بد أن يكون بصيغة الماضي، ونفى المولودية عنه سبحانه؛ لاقتضائها المادة، فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق، والأحدية الحقيقية، أو لاقتضائها سبق العدم ولو بالذات، أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة.
ولأن الولد لا يكون إلا لمَن له زوجة، والله تعالى ليس له زوجة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]؟!
وجاء في "صحيح البخاري" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا))، وإنما سماه شتمًا؛ لما فيه من التنقيص؛ لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثًا له على ذلك، والله منزَّه عن كل ذلك، قال الطيبي: ومما في التكذيب والشتم من الفظاعة والهول أن المكذِّب منكِر للحشر، يجعل الله كاذبًا، والقرآن المجيد - الذي هو مشحون بإثباته - مفترى، ويجعل حكمة الله في خلقه السماءَ والأرض عبثًا، والشاتم يحاول إزالة المخلوقات بأسرها، ويزاول تخريب السموات من أصلها". ("فيض القدير" - ج 4/ ص 473).
وقد خصَّ الله ابنَ آدمَ في هذا الخطاب دون سائر خَلقه؛ لجرأته على الله، وافترائه تلك الفِرْيةَ العظيمة، بل إن تلك المخلوقات الأخرى لَتنتفضُ وترتعش وترتجف من سماع تلك القولة النابية، والمساس بقداسة الذات العلية، كما ينتفض كلُّ عضو وكل جارحة عندما يغضب الإنسان للمساس بكرامته، أو كرامة من يحبه ويوقره، هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النابية تشترك فيها السموات والأرض والجبال، كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم: 88 - 91]، وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} بيان لفظاعة هذا الافتراء وشناعته، والإد والإدة: الداهية والأمر الفظيع، والمادة تدل على الشدة والثقل، والمعنى: لقد جئتم شيئًا منكرًا عظيمًا شديدًا في فظاعته وجرمه، وبين أثر هذا الافتراء، وفظاعة شأنه في البهتان والهول والشدة في قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}.
إن السموات والأرض والجبال - وهي من أعظم مكونات هذا الكون - لَتكادُ تنشق وتتصدع وتنهار سريعًا؛ استعظامًا لتلك الفرية {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}، وتهويلاً لها